قليلٌ منَ المصلحينَ مَن يربطُ المجتمعَ بالحركةِ العلميةِ والجهاديةِ في الوقتِ نفسهِ ، وهذا ما تمكّنَ مِن فعلهِ السيدُ أبو الحسنِ الأصفهانيّ المولودُ عام ( ألفٍ وثمانمائةٍ وستةٍ وستينَ )1866م ، إذ قدَّمَ صورةً مُذهلةً عن العالِمِ الربانيِّ الذي يتحركُ من أجلِ دينهِ ومجتمعهِ فكانَ يحثُّ على طلبِ العلمِ والمعرفةِ وإنقاذِ المجتمعِ من الجهلِ وترسباتهِ ، فحرصُهُ على المواطنِ يشبهُ حِرصَهُ على الوطن تماماً ، وتتبلورُ أدوارُ السيّدِ الأصفهانيِّ الوطنيةِ في حملهِ السلاحِ والدفاعِ عنِ العراقِ ضدَّ الاحتلالِ الانكليزيّ ، إذ كانَ مِن رجالاتِ ثورةِ العشرينَ الشهيرةِ بعدَ رحيلِ رجُلِها الفذِّ الشيخِ محمد تقيِّ الشيرازي ، برفقةِ الكثيرِ من علماءِ عصرهِ ، وكانتْ مواقفُهُ ضدَّ الاحتلالِ مشهودةً معروفةً ، فأرعبَهُم بتحركاتِهِ ونشاطاتِه ِفما كان منهُم إلا تسفيرَهُ وتهجيرَهُ الى إيران ، ولم يصبرْ كثيراً حتى عادَ بهِ الحنينُ والشوقُ لعاصمةِ الدينِ الإلهيِّ النجفِ الأشرفِ.
كانَ رجوعُهُ هذهِ المرةَ مُحمّلاً بالمسؤوليةِ الكبيرةِ ، وإعلانِهِ فيما بعدُ مرجعيتِهِ الدينيةِ للناسِ ، وقد حازَ على ثقةِ العلماءِ والفضلاءِ ، وتوسّعتْ مرجعيتُهُ بعدَ رحيلِ الشيخِ النائينيِّ والشيخِ العراقيِّ (رحمِهُم اللهُ) ، فأصبحَ المرجعَ الأعلى للشيعةِ في العالمِ الإسلاميِّ بلا خلافٍ ، وأخذّ يهتمُّ بالناسِ كثيراً ، ويسعى لدفعِ الجهلِ وإحلالِ العلمِ ، فكانَ يُجيبُ على أسئلةِ الناسِ بنفسهِ ، فهوَ الرجلُ الذي أرادَ أنْ يُشبعَ الناسَ عِلماً وفَهماً وحركةً وتَبصُّراً فنتجَ عنِ اهتمامهِ هذا تأسيسُهُ منتدى النشرِ الذي انبثقتْ منهُ كليةُ الفقهِ فيما بعدُ ، وصارَ مُلهِماً لكِبارِ العلماءِ في هذا المجالِ أمثالِ السيّد مُحسن الحكيم والسيّد هادي الميلاني والشيخ مُحمد تقي الآمُلي.
يُحدِثُنا السيّد مُحسنُ الأمينُ رحمهُ اللهُ عن صفاتِ وسجايا السيدِ الأصفهاني قائلاً: (كانَ رجلاً كبيرَ العقلِ، واسعَ العلمِ والفقهِ، بعيدَ النظرِ دقيقَهُ، صائبَ الرأيِ، عميقَ الفِكرِ، حَسِنَ التدبيرِ، واسعَ التفكيرِ، عارفاً بمواقعِ الأمورِ، جاهداً في إصلاحِ المُجتمعِ).
السيّدُ الذي يأسفُ الزمانُ على رحيلهِ ، وتحِنُّ جدرانُ المساجدِ الى تراتيلهِ ، فتشكو فراقَهُ الارضُ المتعطشةُ الى تباتيلهِ.
سرُّ النجفِ ، وعقلُها المدبِّرُ ، وجوهرتُها النادرةُ وحكمتُها الخالدةُ ، كانَ آيةً في التواضعِ والزُّهدِ والعِلمِ ، عالمٌ لا يهدأُ ولا يكِلُّ ولا يملُّ عن التفقُّهِ والتبحُّرِ في فنونِ الإسلامِ وفقهِ آلِ محمدٍّ (عليهمُ السلامُ) ، بعدَ تلكَ المسيرةِ الحكيمةِ الجهاديةِ خَلَدَ عندَ جدهِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلامُ) سنةَ ( ألفٍ وتسعمئةٍ وخمسة وأربعين) 1945م عن عُمرٍ ناهزَ الثمانينَ عاماً.