قد اسهمت قصور الحيرة وبيعها في الحفاظ على بعض الشواهد التي تدلل على الوعي التاريخي والتدوين عند العرب في العصر الذي سبق الاسلام ، وتشير المصادر العربية الى انتشار الكتابة بالحيرة وما جاورها من ارض العراق ومعروف ما للكتابة من شواهد ودلالات على التدوين (1) وان الذي يتتبع اخبار وتاريخ العرب قبل الاسلام يعلم : ان العرب لم يكونوا جميعهم اميين لا يعرفون القراءة والكتابة ويعلم ان سكان الحيرة في ذلك العصر كانوا يرسلون ابناءهم الى الكتاب ليتعلموا القراءة والكتابة ومنها النصرانية (2).

ونجد في روايات المؤرخين المتواترة روايات تؤكد ان قريشا اخذت الكتابة من اهل الحيرة (3) ، وعن دور الحيرة في نقل المعلومة التاريخية من البلدان المجاورة للعرب الى داخل الجزيرة وبالعكس نشير الى ان النظر بن الحارث القرشي اخذ عن الحيرين اخبار فارس وسير ابطالها (4)، والذي كان يجلس اذا جلس الرسول(صلى الله عليه وآله) مجلساً فدعا فيه الى الله تعالى ، وتلا فيه القرآن فيخلفه في مجلسه اذا قام ، فحدثهم عن رستم السنديد وملوك فارس ثم يقول .. والله ما محمد بأحسن مني، وما حديثه الا اساطير الاولين : كتبتها كما اكتتبها (5).

ومن هذا فلا نستبعد ان يبعث بعض القرشيين ابناءهم الى كتاب الحيرة والكتابات التي وجدت عند عرب الحيرة كلها مؤشر واضح على وجود جذور الفكر التاريخي عند العرب قبل الاسلام وهذا ما نجده عند هشام الكلبي الذي اعتمد في استخراج اخبار العرب على ما كان موجوداً في كتابات الحيرة اذ قال : " اذ كنا نريد ان نسوق تمام التاريخ على ملك ملوك فارس ونستشهد على صحة ما روى من امرهم بما وجدنا الى الاستشهاد به عليها سبيلا وكان امر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند اهل الحيرة متعالماً مثبتاً عندهم في كنائسهم واسفارهم ، اني كنت استخرج اخبار العرب وانساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ اعمار من عمل منهم لآل كسرى … من بيع الحيرة وفيها ملكهم وامورهم كلها " (6).

وروى ابن سلام (7)، ان النعمان بن المنذر كان يحتفظ بديوان يحتوي اشعار الفحول ، وما مدح هو واهل بيته به فصار ذلك الى بني مروان .

اما كتب الادب العربي فقد نقلت لنا كثيرا من الشواهد على ان الحيرة كانت موئل الادباء والشعراء واهتمام ملوك الحيرة بذلك انما يراد ذلك على وعي ديني وسياسي وتاريخي متقدم اذ لم تكن الحيرة بمعزل عن الجزيرة العربية انما كانت منذ ان سكنها اللخميون من العرب وهي حافلة بالاحداث والتأثيرات المتبادلة مع غيرها فقد كانت من اهم محطات لقاء العرب بالفرس (8).

واجمال القول : ان العرب عرفوا الكتابة في عصر ما قبل الاسلام واستخدموها في تقييد بعض شؤون حياتهم المادية والمعنوية لكنهم لم يعرفوا التدوين لان التدوين عمل جماعي يقصد اليه قصداً فكيف يصح قيام هذا في مجتمع مفكك متنافر ، كل قبيلة تمثل فيه دولة وحكومة مستقلة منفصلة عن القبائل الاخرى. والتدوين لم يحدث في البيئة العربية الا بعد الاسلام ولبواعث دينية واجتماعية وغيرها من البواعث سنقوم على تناولها لاحقاً . كما ان اقدام العرب على الكتابة بعد الاسلام لم يتم دفعة واحدة وانما حدث على درجات ومراحل صاحبت تطور القوم ورقيهم وانتقالهم من طور البداوة شيئاً فشيئاً الى طور الحضارة لان البداوة تنمي الحفظ وتقوي الذاكرة (9).

_____________

 (1) ابن قتيبة ، المعارف ، ص273 .  

 (2) الاصفهاني، علي بن الحسين بن محمد (ت356هـ) ، الاغاني ، ط3 ،(بيروت، 1975) ، ج2 ، ص83 .

 (3) ابن خلدون ، المقدمة ، ص591 ؛ السيوطي ، المزهر في علوم اللغة ، ج2 ، ص343 .   

 (4) مدني ، امين ، التاريخ العربي ومصادره ، (مصر ، 1971 ) ، ج2 ، ص140 .   

 (5) ابن هشام ، السيرة النبوية ، ج1 ، ص439-440 .   

 (6) مدني ، امين ، التاريخ العربي ومصادره ، ج2 ، ص140 .   

 (7) الجمحي ، محمد بن سلام (ت231هـ) ، طبقات فحول الشعراء ، تحقيق : محمود محمد شاكر ، (مصر، 1952) ، ج1 ، ص23 .

 (8) ينظر: ابن دريد ، الاشتقاق ، تحقيق : عبد السلام هارون ، (بغداد، 1979 ) ، ج2 ، ص376 .   

 (9) موافي ، عثمان ، منهج النقد التاريخي عند المسلمين ، ص52 .