المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16309 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


سخافاتٌ وخرافات مدعوا النبوة الزائفة  
  
13247   07:21 مساءاً   التاريخ: 8-11-2014
المؤلف : محمّد هادي معرفة
الكتاب أو المصدر : تلخيص التمهيد
الجزء والصفحة : ج2 ، ص138-161.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / العقائد في القرآن / شبهات وردود /

على أنّ التاريخ لا يخلو من أسماء قوم قد زعموا أنّهم عارضوا القرآن ، أو رأوا أنّ باستطاعتهم أن يعارضوه : {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال : 31] فمنهم مَن ادّعى النبوّة وجعل ما يُلقيه من سفاسفه ما زعمه مضاهياً للقرآن كي لا تكون صنعته بلا أداة {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ} [الأنعام : 93].

ومنهم مَن تعاطى معارضته صناعةً وظنّ أنّه قادر عليها ، لكنّه سرعان ما تراجع إلى الوراء إمّا صاغراً أو مستغفراً ربّه من سوء ما نواه .

والغريب أنّ ما يؤثر عن أُناس في التاريخ حاولوا معارضة القرآن أنّهم أتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم ، بل نزلوا إلى ضربٍ من السخف والتفاهة ، بادٍ عواره ، باقٍ عاره وشناره ، فمنهم عاقل استحيى أن يتمّ تجربته فحطّم قلمه ومزّق صحيفته ، ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تُروّج فيهم سخافاته ، فطوى صحفه وأخفاها عن أعين الناظرين إلى حين ، ولكن متى ذلك الحين ؟ إنّه إلى أبد الآبدين ! أمّا الذين أتوا بسخائفهم فقد أبدوا بعوراتهم سفهاً

وحمقاً ، وإليكم نماذج من كلام النمطين ، دليلاً على صدق التحدّي إعجازاً مع الخلود { وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة : 24].

1 ـ مُسيلَمة الكذّاب :

فمِن أُولئك مسيلمة بن حبيب ، تنبّأ باليمامة في بني حنيفة على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، بعد أن وَفد عليه وأسلم في ظاهر أمره ، كان يُصانع كلّ إنسان ويتألّفه ، ولا يبالي أن يطّلع أحد منه على قبيح ، إذا كان اتّخذ النبوّة مدعاةً إلى الملك ، حتّى عرض على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أن يُشركه في الأمر ... كان وَفد بني حنيفة ـ في سنة تسع من الهجرة ـ قَدِم على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وفيهم مُسيلمة ، وقد ستروه بالثياب ، ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) جالس بين أصحابه معه عسيب من سعف النخل ، في رأسه خوصات ، فلمّا انتهى إلى رسول ( صلّى الله عليه وآله ) وهم يسترونه بالثياب كلّمه وَسَأله ، فقال له الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتُكه ) ، وكان قد سأله تشريكه في أمر الرسالة .

ثمّ انصرفوا ، فلمّا انتهوا إلى اليمامة ارتدّ عدوّ الله ، وتنبّأ وتكذّب لهم ، وقال : إنّي أُشركت في الأمر مع محمّد ، ثمّ جعل يسجع لهم الأساجيع ، ويقول لهم فيما يقول مضاهاةً للقرآن :

( لقد أَنعَم اللهُ على الحُبلى ، أَخرجَ منها نَسمةً تسعى ، مِن بين صفاقٍ (1) وَحَشى ) .

ثمّ أحلّ لهم الخمر ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بأنّه نبي ، لكنه شريكه ، فأصفقت مع بنو حنيفة على ذلك (2) .

وكتب إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في أُخريات سنة عشر : من مُسيلمة رسول الله إلى

محمّد رسول الله ، سلام عليك ، أمّا بعد ، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون .

وأرسله مع رجلينِ من قومه ، فقَدِما إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وقدّما إليه الكتاب ، فلمّا قرأه قال لهما : ( فما تقولان أنتما ) ؟ قالا : نقول كما قال : فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( أَما واللّه لولا أنّ الرُسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما ) ، ثمّ كتب إلى مسيلمة : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمّد رسول الله إلى مُسيلمة الكذّاب ، السلام على مَن اتّبع الهدى ، أمّا بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين ) (3) .

وكان قد اتّخذ باليمامة حرماً ، وكانت قُرى لبني أُسيد صارت في الحرم ، ومِن ثَمّ كانوا يَغيرون على ثِمار أهل اليمامة واتّخذوا الحرم دغلاً ، فقيل لمسيلمة في ذلك ، فقال : أنتظر الذي يأتي من السماء ثمّ أتاه فقال :

والليل الأطحم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت أُسيد مِن مُحرم .

ثمّ عادوا للغارة وللعدوى واستعدى عليهم ، فقال مسيلمة : أنتظر الذي يأتني ، فقال :

واللّيل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أُسيد من رطب ولا يابس .

فقالوا له : أمّا النخيل مُرطبة فقد جدّوها ، وأمّا الجدران يابسة فقد هدموها ، فقال : اذهبوا وارجعوا فلا حقّ لكم .

وكان فيم يقرأ لهم : إنّ بني تميم قوم طهر لقاح ، لا مكروه عليهم ولا إتاوة ، نجاورهم ما حيينا بإحسان ، نمنعهم من كلّ إنسان ، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن .

وكان يقول : والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها ، والشاة السوداء واللبن الأبيض ، إنّه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تمجعون .

وكان يقول : الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم  طويل ...

وكان يقول : يا ضفدع ابنة ضفدع ، نقّي ما تنقِّين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدّرين .

وكان يقول : والمبذّرات زرعاً ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ، واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً ، لقد فُضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، ريفكم فامنعوه ، والمعترّ فآووه ، والباغي فناوؤه .

وجاءه طلحة النمري فقال له : أنت مُسيلمة ؟ قال : نعم ، قال : مَن يأتيك ؟ قال رحمن ، قال : أفي نور أم في ظلمة ؟ قال : في ظلمة ، فقال طلحة ، أشهد أنّك كذّاب وأنّ محمداً صادق ، ولكن كذّاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر ، فثبت معه حتّى قُتل يوم عقرباء فيمَن قُتل معه (4) .

وكان من المسلمين رجل يقال له نهار الرجّال (5) قد هاجر إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وقرأ القرآن وفقّه في الدّين ، فبعثه معلّماً لأهل اليمامة وليشغب على مُسيلمة وليشدّ من أمر المسلمين ، لكنه أصبح بعد وفاته ( صلّى الله عليه وآله ) أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة ؛ إذ شهد أنّه سمع محمّداً ( صلّى الله عليه وآله ) يقول : إنّ مسيلمة قد أُشرك معه ! فصدّقوه واستجابوا له .

فكان الرجّال لا يقول شيئاً إلاّ تابعه مسيلمة ، وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرّف سيرة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ومعجزاته في العرب ، ليحاكيه ويتشبّه به ، لكنّه ما عارضه في شيء قطّ إلاّ انقلبت الآية عليه وأخزاه الله .

قال الجاحظ في كتاب ( الحيوان ) عند القول في الضفدع : ولا أدري ما هيّج مسيلمة على ذِكرها ولِمَ ساء رأيه فيها حتّى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقّي ما تنقّين ، نصفك في الماء ونصفك في الطين ، لا الماء تُكدّرين ، ولا الشارب تمنعين .

وقال الرافعي : وكلّ كلامه على هذا النمط واهٍ سخيف لا ينهض ولا يتماسك ، بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلك من جهتيه ، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى ، ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البصر بمواضعه (6) .

وقال الدكتور درّاز ـ بشأن سخافة عقله ـ : فقد زعم أنّه يُوحى إليه بكلام مثل القرآن ، وما صنع شيئاً إلاّ أنّه كان يَعمد إلى آي القرآن فيسرق أكثر ألفاظها ويُبدّل بعضاً ، كقوله إنّا أعطيناك الجماهر ، فصل لربك وجاهر ، أو يجيء على موازين الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية ومعانٍ سوقية ، كقوله : والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً .

وهكذا لم يستطع وهو عربيّ قحّ أن يحتفظ بأُسلوب نفسه ، بل نزل إلى حدّ الإسفاف ، وأتى العبث الذي يأتيه الصبيان في مداعبتهم وتفكّههم بقلب الأشعار والأغاني عن وجهها ، ولا يخفى أنّ هذا كلّه ليس من المعارضة في شيء ، بل هو المُحاكاة والإفساد ، وما مَثَله إلاّ كمثل مَن يستبدل بالإنسان تمثالاً لا روح فيه ، وهو على ذلك تمثال ليس في شيء من جمال الفنّ (7) .

قلت : وبذلك يتبيّن فساد ما زعمه بعض أهل الخرف ، مِن أنّه لو كان ما أتى به باطلاً لوجب على الله إرغامه ، كما قال تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة : 44 - 47] ، كما زعمه بعض البابية في سفاسفهم .

إذ لا تُعدّ أمثال هذه الخزعبلات تقوّلاً على الله ، ما لا يتناسب مع كلامه تعالى ، لا في لفظه ولا في أُسلوبه ولا في شيء من معانيه ، إنّما هي ترّهات تشبه أطيط بعير أو نهيق حمار . 

2 ـ سجاح بنت الحارث التميمية :

كانت في بني تغلب ( وهم أخوالها ) راسخة في النصرانية ، وكانت تعلّمت منهم بعضاً من شؤون الدين ، فتنبّأت فيهم بعد وفاة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فاستجاب لها الهذيل وتركت التنصّر ، ومالأها جماعة من رؤساء القبائل ، وكانت تقول لهم : إنّما أنا امرأة من بني يربوع ، وإن كان مُلك فالمُلك ملككم ، فخرجت بهم تريد غزو المسلمين ، ومرّت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها ، وكان أمر مسيلمة قد غلظ واشتدّت شوكة أهل اليمامة ، فنهدت له بجمعها ، وخافها مسيلمة ثمّ اجتمعا وعرض عليها أن يتزوّجها ، قال : ليأكل بقومه وقومها العرب فأجابت وانصرفت إلى قومها فقالوا : ما عندك ؟ قالت : كان على الحقّ فاتّبعته فتزوّجته ...

ولها خلال قصّتها كلمات وتسجيعات لَتُوقر من أَنفس العرب وتستدرجهم في الاستماع إلى هذه التعابير المسجعة التي تشبه كلام الكهّان ، وإليك إجمال قصّتها :

كانت عندما تريد الخروج قالت : أعدّوا الركاب ، واستعدّوا للنهاب ، ثم أغيروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب ، وكان قصدت الإغارة على قبيلة رباب ، كانت من أضعف القبائل . لكنّها فشلت ورجعت مقهورة .

يقول أصمّ التميمي في ذلك :

أَتـتنا  أخـتُ تغلب iiفاستهدت      جلائبَ من سُراة بني أبينا (9)

وأَرسـت دعـوةً فـينا iiسفاهاً      وكانت  مِن عمائر آخرينا (10)

فـما  كـنّا لـنرزيهم iiزبالاً      وما كانت لتَسلم إذ أَتينا (11)

أَلا سـفهت حلومكم iiوضلّت      عشيّةَ تحشدون لها ثبينا (12)

ثمّ خرجت في جنود الجزيرة حتّى بلغت النباج ، فأغار عليهم أوس ابن خزيمة وهَزمهم وقتل منهم وأَسِر مَن أسر ، فردّت على أعقابها ، فاجتمع إليها رؤساء الجزيرة ، وقالوا لها : ماذا تأمرين ؟ قالت : اليمامة ! فقالوا : إنّ شوكة أهل اليمامة شديدة وقد غلظ أمر مسيلمة ، قالت عليكم باليمامة ، ودفّوا دفيف الحمامة ، فإنّها غزوة صرّامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة .

فنهدت لبني حنيفة ، وبلغ ذلك مُسيلمة ، فهابها واحتال في استمالتها ، فأرسل إليها بهديّة ، وطلب منها يستأمنها على نفسه حتّى يأتها ، فأمرت بنزول الجند على الأمواه (13) ، وأذنت له وآمنته ، فجاءها وافداً في أربعين رجلاً من الأحناف ، فأوّل ما بدأها أن قال لها : لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت ، وقد ردّ الله عليك النصف الذي ردّت قريش ، فحباك به ، وكان لها لو قبلت .

فقالت : لا يردّ النصف إلاّ مَن حنف ، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف (14) .

فقال مسيلمة : سمع الله لمَن سمع ، وأطعمه بالخير إذا طمع ، ولا زال أمره في كلّ ما سرّ نفسه يجتمع ، رآكم ربّكم فحيّاكم ، ومن وحشةٍ خلاكم ، ويوم دينه أنجاكم ، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار ، لا أشياء ولا فجّار ، يقومون الليل ويصومون النهار ، لربّكم الكُبار ، ربّ الغيوم والأمطار .

وقال أيضاً : لمّا رأيت وجوههم حسنت ، وأبشارهم صفّت ، وأيديهم طفلت ،

قلت لهم : لا النساء تأتون ، ولا الخمر تشربون ، ولكنّكم معشر أبرار ، تصومون يوماً وتُكلّفون يوماً ، فسبحان الله ، إذا جاءت الحياة كيف تحيون ، والى ملك السماء ترقون ، فلو أنّها حبّة خردلة لقام عليها شهيد ، يعلم ما في الصدور ، ولأكثر الناس فيها الثبور (15) .

ثمّ دعا مسيلمة سجاحاً إلى حصنه ، فلمّا أتت ونزلت به أغلق الحصن دونها ، فقالت له : انزل ، قال : فنحّي عنك أصحابك ، ففعلت ، فقال مسيلمة : اضربوا لها قبّةً وجمّروها ، لعلّها تذكر الباه ، ففعلوا .

فلمّا دخلت القبّة نزل مسيلمة فقال : ماذا أُوحي إليك فقالت : هل تكون النساء يبتدئن ؟! ولكن أنت قل ، ماذا أُوحي إليك ؟ قال مسيلمة : أَلم ترى إلى ربّك كيف فعل بالحبلى ، أخرج منها نَسمةً تسعى ، من بين صفاقٍ وَحَشى .

قالت : وماذا أيضاً ؟ قال أُوحي إليّ : إنّ الله خلق النساء أفراجاً ، وجعل الرجال لهنّ أزواجاً ، فنُولج فيهنّ قُعساً (16) إيلاجاً ، ثمّ نخرجها إذا نشاء إخراجاً ، فينتجنَ لنا سخالاً إنتاجاً .

قالت : أشهد أنك نبيّ ! قال : هل لك أن أتزوّجك ؟ فآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت : نعم ، فقال :

أَلا قـومي إلـى ...      فقد هُيّئ لك المضجع

... إلى آخر أبيات ملؤها استهتار وخلاعة ، يترفّع القلم عن نقلها (17) .

ذكر ابن حجر : أنّها بعد مقتل مسيلمة عادت إلى الإسلام فأسلمت وعاشت الى خلافة معاوية (18) وما كانت نبوّتها إلاّ زفافاً على مسيلمة !

3 ـ طليحة بن خويلد الأسدي :

كان من أشجع العرب ، وكان يُعدّ بألف فارس ، قدم على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ، ثمّ لمّا رجع تنبّأ طليحة وعظم أمره بعد أن تُوفّي رسول الله ، وكان يزعم أنّ ذا النون هو الذي يأتيه بالوحي ، ولم يأتِ بقرآن ؛ لأنّ قومه من الفصحاء لم يكن ليعبّر عليهم ذلك ، إلاّ أنّهم تابعوه عصبيةً وطلباً لأمر كانوا يحسبونه كائناً في العرب بالغَلبة .

ولم يُؤثر منه كلام سِوى قوله : إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئاً ، فاذكروا الله قياماً ، فإنّ الرغوة فوق الصريح ، وذلك أنّ الصلاة في شرعه كانت مجرّد قيام وابتهال إلى الله ، فيما زعم .

ولمّا توافته جيوش المسلمين تلفّف في كساء له بفناء بيت له من شعر ، يتنبّأ لهم والناس يقتتلون ، وكان عيينة بن حصن ـ في سبعمِئة من بني فزارة ـ يُقاتل دونه ، فلمّا هزّت عيينة الحرب وضرب القتال كرّ على طليحة ، فقال : هل جاءك جبرئيل بعد ؟ قال : لا ، فرجع فقاتل ، حتّى إذا اشتدّت الحرب ثانية جاءه فقال له : لا أباً لك ، أجاءك جبرئيل بعد ؟ قال : لا والله . فجعل يقول عيينة : حتّى متى ؟ قد والله بلغ منّا ، ثمّ رجع فقاتل ، وكرّ عليه ثالثاً وسأله هل جاءه جبرئيل ، وفي هذه المرّة قال : نعم ! قال : فماذا قال لك ؟ قال : قال لي : إنّ لك رحىً كرحاه ، وحديثاً لا تنساه .

فقال عيينة : أظنّ أنْ قد علم الله أنّه سيكون حديث لا تنساه ، يا بني فزارة ، هكذا فانصرفوا فهذا والله كذّاب ! فانصرفوا وانهزم الناس ، فغشوا طليحة يقولون : ماذا تأمرنا ؟ ـ وقد كان أعدّ فرسه عنده ، وهيّأ بعيراً لامرأته النوّار ـ فلمّا أن غشوه يقولون : ماذا تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه وحمل امرأته ثمّ نجا بها ، وقال : مَن استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل ، ثمّ سلك الحوشية حتّى

لحق بالشام ، وارفض جمعه (19) .

4 ـ الأسود العنسي :

هو مسعود بن كعب من بني مذحج ، ويقال له ( عبهلة ) ، وكان يُلقّب ذا الخمار ؛ إذ كان يقول : يأتيني ذو خمار ، وكان فصيحاً معروفاً بالكهانة والسجع عالماً بالنسب ، وقد تنبّأ على عهد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، وخرج باليمن ، واتّبعته قبائل من مذحج واليمن واستفحل أمره ، وكان يدّعي أنّ مَلَكين يأتيانه يُسمّى أحدهما ( سحيقاً ) والآخر ( شريفاً ) وكان إذا ذهب مَذهب التنبّؤ أكبّ ثم رَفع رأسه ويقول : قال لي : كيت كيت ، وكان له خُدع كثيرة يزخرف بها ، قُتل قبل وفاة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بيوم ، قتله فيروز وقيس وداذويه من أبناء الفرس الذين أسلموا باليمن ، قتلوه في تواطؤ خطير .

وذلك عن طريق امرأة يقال لها ( مرزبانة ) كان قد اغتصبها ؛ لأنّها كانت من أجمل النساء وكانت مسلمةً صالحةً ، وكانت تحدّث عنه أنّه لا يغتسل من الجنابة ، فصنعت سرباً ـ حفيرةً تحت الأرض : النفق ـ وأدخلتهم عليه وهو سكران ، فخبطوه بأسيافهم ، وهم يقولون :

ضلّ نبيٌّ ماتَ وهو سكرانُ      والناسُ  تلقى جلّهم  كالذِّبّان

النور والنار لديهم سيّان (20)

وذكر ابن جرير : أنّ الأسود العنسي كتب إلى عمّال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ورؤساء الأجناد : أيّها المتورّدون علينا ، امسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا ، ووفّروا ما جمعتم ، فنحن أولى به ، وأنتم على ما أنتم عليه .

وكان اللعين قد خرج واستغلظ أمره واستولى على صنعاء وقتل شهر بن باذان

الذي خلف أباه باذان على صنعاء بأمر من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وتزوّج بامرأته ( آزاد ) ـ وهي ابنة عمّ فيروز ، ولعلّها التي كانت تُلقّب بـ ( مرزبانة ) ـ على ما جاء في رواية الروض الأنف ـ وقد  أسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يفوث ، وأسند أمر الأبناء ( الفرس الذين قطنوا اليمن ) إلى فيروز وداذويه ، وكانوا من ذي قبل من عمّال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فاستمالهم وهدّدهم على قبول ولايته ، فقلبوا مكرهين .

قال : واستخفّ بقيس وبفيروز وداذويه ، وتزوّج امرأة شهر ، ابنة عمّ فيروز .

يقول فيروز : ونحن في هذه الشدّة إذ جاءنا كتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، قَدِم علينا به وَبَر بن يحنس ، يأمرنا فيه بالقيام على ديننا والنهوض في الحرب ، والعمل في الأسود إمّا غليةً وإمّا مصادمةً ، وأن نبلّغ عنه من رأينا أنّ عنده نجدةً وديناً ، فعملنا في ذلك ، وكاتبنا الناس ودعوناهم ، فرأينا أمراً كثيفاً (21) .

قال : وقد أحسّ بذلك الأسود ، يقال : أخبره به شيطانه ، فأرسل إلى قيس ، وقال له : إنّ هذا ـ وأشار إلى شيطانه ـ يقول لي : عمدت إلى قيس فأكرمته ، حتى إذا دخل منك كل مدخل ، وصار في العزّ مثلك ، مال ميل عدوك وحاول ملكك ، وأضمرَ على الغدر ، إنّه يقول : يا أسود يا أسود ، يا سوأه يا سوأه ، اقطف قُنّته (22) وخذ من قيس أعلاه ، وإلاّ سلبك أو قطف قُنّتك .

فقال قيس : كذب وذي الخمار ، لأنت أعظم عندي من أن أُحدّث نفسي بذلك ، فقال العنسي : ما أجفاك ، أَتكذّب الملك ! قد صدق الملك لكني عرفت الآن أنّك تائب !

ثم خرج قيس من عنده وجاء إلى جُشَيش وفيروز وداذويه وأخبرهم بالخبر ، وقال : إذاً فما الرأي ؟ قالوا : نحن على حذر . فبيناهم على ذلك إذ أرسل إليهم العنسي ، وقال لهم : أَلَم أُشرّفكم على قومكم ، أَلَم يبلغني عنكم ؟! فقالوا : أقلنا

مرّتنا هذه ، فقال لهم : لا يبلغني عنكم فأقتلكم ، قالوا : فنجونا ولم نكد ، لكنّه لم يزل في ارتياب من أمرنا وأمر قيس ، ونحن أيضاً في ارتياب من أمره .

قال فيروز : إذ جاءنا اعتراض عامر بن شهر بن باذان ، وذي زود ، وذي مران ، وذي كلاع ، وذي ظليم عليه ، وكاتبونا وبذلوا لنا النصر ، وإنّما اهتاجوا لذلك حين جاءهم كتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بشأن العنسي يحرّضهم عرباً وغير عرب على رفع فتنته ، فكاتبناهم أن لا يحرّكوا شيئاً حتّى نبرم الأمر .

قال : فدخلت على ( آزاد ) امرأته فقلت لها : يا ابنة عمّ ، قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك ، قتل زوجك وطأطأ في قومك القتل ـ أي أسرع فيهم القتل ـ وسفل بمَن بقي منهم ، وفضح النساء ، فهل عندك من ممالأة عليه ؟! فقالت : عليّ أمره ، قلت : إحراجه ؟ قالت : أو قتله ، قلت : أو قتله ؟! قالت : نعم ، والله ما خلق الله شخصاً أبغض إليّ منه ، ما يقوم لله على حقّ ، ولا ينتهي له على حرمة ، قالت : فإذا عزمتم فأعلموني ، أخبركم بمأتى هذا الأمر .

قال : فاجتمع أمرنا على أن نغدر به ، فأتيت آزاد وأخبرتها بعزيمتنا وانتظرت رأيها ، فقالت : هو متحرّس ، وليس في القصر ناحية إلاّ والحرس محيطون بها ، سوى هذا البيت ، فإنّ ظهره إلى مكان كذا ، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ، فإنّكم دون الحرس ، وليس دون قتله شيء ، قالت : وإنّكم ستجدون فيه سلاحاً وسراجاً .

فتقدّم جُشَيش وداذويه فاقتلعا بطانة البيت ، فدخل فيروز وأغلق الباب وجلس عند آزاد كالزائر ، وإذا بالأسود دخل عليها فاستخفّته غيرةً ، وأخبرته برضاع وقرابة ، فصاح به وأخرجه .

قال : فنقبنا البيت من خارج ودخلنا وفيه سراج تحت جفنةٍ ، وإذا به يمرّ بباب البيت إذ سمع غطيطاً ، فعاجله فيروز فخالطه وهو مِثل الجمل ، فأخذ برأسه وقتله ، فدقّ عنقه ووضع ركبته في ظهره فدقّه ، ثمّ قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه ، وهي ترى أنّه لم يقتله ، فقالت أين تدعني ؟ قال : أخبر أصحابي ، فأتاهم فقاموا معه

وأرادوا حزّ رأسه ، فاضطرب فلم يمكن ضبطه ، فقال : اجلسوا على صدره ، فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره ، إذ سمعت منه بربرة ( صياح ونخير ) فألجمته بمئلاة (23) فأَمرّوا الشفرة على حلقه ، فخار كأشدّ خوار ثور ، فابتدر الحرس الذين كانوا حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ما هذا ؟ فقالت المرأة : النبيّ يُوحى إليه ! فخمد .

قال : وكتبنا بذلك إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكان قد أتاه الخبر من السماء الليلة التي قُتل فيه العنسي ، فأصبح رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يُبشّر أصحابه بهلاك عدوّ الله فقال : قُتل العنسي البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركينَ ! قيل : ومَن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز (24) ، تلك كانت نهاية أمر اللعين عدوّ الله .

قال فيروز في كيفيّة قتله : إنّي لمّا خرجت إليه كنت قد خلفت سيفي فقلت : إن رجعت إلى سيفي خفت أن يفوتني ، فضربت بيدي على رأسه ، وأخذت رأسه بيد ولحيته بيد ، ثمّ لويت عنقه فدققتها .

قال أبو جعفر : وكان أوّل أمره إلى آخره ثلاثة أشهر (25) .

5 ـ ابن المقفّع :

عبد الله بن المقفّع الفارسي الماهر في صنعة الإنشاء والأدب (26) وهو الذي عرّب ( كليلة ودمنة ) بأُسلوبه الأدبي البديع ، صاحب كتاب ( الدرّة اليتيمة ) المعروفة ، زعموا أنّه اشتغل بمعارضة القرآن مدّة مزّق ما جمع واستحيى لنفسه

من إظهاره .

يقال : اجتمع أبو شاكر الديصاني وابن أبي العوجاء (27) وعبد الملك البصري (28) وابن المقفّع في المسجد الحرام يستهزئون بالحاجّ ويطعنون في الإسلام والقرآن .

فقال ابن أبي العوجاء : تعالوا ننقض القرآن كلّ واحد منّا ربعه ، وإذا نقضناه بطلت نبوّة محمّد ، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام !

فتوافقوا على أن يجتمعوا بعد عام ويأتوا بما عملوا في نفس المكان ، فلمّا كان من قابل واجتمعوا ، وإذا هم لم يأتوا بشيء !

قال ابن أبي العوجاء : أمّا أنا فمُنذ افترقنا تفكّرت في هذه الآية { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا } [يوسف : 80] فلم أقدر على موازاتها في الفصاحة والبيان ، فقد شغلتني عن التفكّر في غيرها !

وقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم كنت مفكّراً في هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج : 73] فلم أقدر على مناظرتها !

وقال أبو شاكر : وأنا أيضاً منذ مفارقتي إيّاكم ظللت متفكّراً في هذه الآية {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء : 22] فلم أقدر على أن أُماثلها !

فقال ابن المقفّع : يا قوم ، إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وأنا مذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود : 44] فلم أستطع

أن آتي بنظيرتها !

قال هشام بن الحكم (29) وهو يراقب الجماعة : فبينما هم في ذلك ، إذ مرّ بهم الإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) وعلم ما هم فيه ، فقال لهم ـ متهكّماً ـ : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء : 88].

قال : فنظر القوم بعضهم إلى بعض ، وقالوا ـ معجبين بالأمر ـ : لئن كان للإسلام حقيقة وإلاّ لما انتهت وصاية محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) إلى مثل جعفر بن محمّد ، والله ما رأيناه قطّ إلاّ هبناه واقشعرّت جلودنا لهيبته ، ثمّ تفرّقوا مقرّين بالعجز (30) .

هذا ، وقد أنكر العلماء نسبة ذلك إلى ابن المقفّع ، الذي هو من أبصر الناس باستحالة المعارضة ، إنّما يَعرف ذا الفضل من الفضل ذووه .

قال الرافعي : هذه النسبة مكذوبة عليه ، وأنّ ابن المقفّع من أبصر الناس بعدم إمكان معارضته مثل القرآن ، لا لشيء إلاّ ، لأنّه من أبلغ الناس ، وإذا قيل : إنّ فلاناً يزعم إمكان المعارضة فاعلم أنّه إما جاهل أحمق أو عالم أعمته العصبية ، وابن المقفّع ليس واحداً منهما ، ذلك الرجل العاقل الخبير بموضع نفسه من كلام الله المجيد .

قلت : إن صحت الرواية ـ ولم تصح ـ فلعلّه كان مجارة مع بني جلدته من أهل الأدب ، وربّما كانوا يلحدون في آيات الله ، فأراد بهذه التجربة إفحامهم وإقناعهم بواقع الأمر .

تدلّك على ذلك قصّته الأخرى ـ في المسجد الحرام ـ مع أصحابه ، عندما مرّوا بالإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) فعمد إلى التنويه بمقامه الرفيع :

روى الصدوق عليه الرحمة بإسناده المتّصل إلى أحمد بن محسن الميثمي قال : كنت عند أبي منصور المتطبّب فقال : أَخبرني رجل من أصحابي قال : كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام ، فقال ابن المقفّع : تَرون هذا الخلق ؟ ـ وأومأ بيده إلى موضع الطواف ـ ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانيّة ، إلاّ ذلك الشيخ الجالس ـ يعني جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) ـ فأمّا الباقون فرعاع وبهائم .

فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء ؟ قال : لأنّي رأيت عنده ما لم أرَ عندهم .

فقال ابن أبي العوجاء : ما بُدّ من اختبار ما قلت فيه منه ، فقال له ابن المقفّع : لا تفعل ، فإنّي أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك .

فقال : ليس ذا رأيك ، ولكنّك تخاف أن يضعف رأيك عندي ، في إحلالك إيّاه المحلّ الذي وصفت ! فقال ابن المقفّع : أمّا إذا توهّمت عليّ هذا فقم إليه ، وتحفّظ ما استطعت من الزلل ، ولا تثنِ عنانك إلى استرسالٍ يُسلمك إلى عقال ، وسمه مالك أو عليك !

قال : فقام ابن أبي العوجاء إلى الإمام ـ وتكلّم معه وحاججه طويلاً في شرح يطول ، ثمّ رجع وهو مبهور بفضله ونبوغه ـ فقال : يا ابن المقفّع ، ما هذا ببشر ، وإن كان في الدنيا روحانيّ يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا ! ثمّ ذكر له حديثه معه (31) .

وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على أنّ ابن المقفّع كان يرى ـ بفضل ذكائه وفرط عقله ـ مكانة أئمّة المسلمين الأحقّاء بمقام الإمامة سمّواً ورفعةً وشموخاً ، تلك كانت

عقيدته الباطنة ، وربّما كان يتألم من تقدم غير الأهل من أهل الهرج والضوضاء ، فكان يقوم في وجههم ويعارضهم بقوّة بيانه وصريح حجّته ؛ ومِن ثَمّ رموه بالزندقة والإلحاد ، هذا ما أظنّه بحقّ الرجل وربّما لا أشكّ في استقامة طريقته على غِرار استقامة سائر أبناء الفرس الذين أسلموا يوم أسلموا وكانوا يَرون الحقّ مع أهل بيت الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وإن كان في ذلك رغم أُنوف أشياع أُميّة وبني العبّاس ! 

6 ـ أبو شاكر الديصاني :

هو عبد الله أبو شاكر الديصاني ، نسبة إلى الفرقة الديصانيّة ، مذهب قديم مِن ثنوية المجوس ، له كتاب ( النور والظلمة ) . كان يسكن الكوفة وله مع هشام بن الحكم مناظرات ، وأخيراً أسلم على يد الإمام جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) في مباحثة جرت معه فاستسلم ، وتشهّد الشهادتين وتاب إلى الله ممّا كان فيه ، عاش إلى حدود المِئة والخمسين .

وقد مرّت قصة معارضته للقرآن إن صحّت ، نعم ، له محاججات على مذهبه القديم الثنوي استناداً إلى آيات متشابهة في القرآن ، ذكرها المجلسي في بحار الأنوار وغيره (32) . 

7 ـ ابن أبي العوجاء :

هو عبد الكريم بن أبي العوجاء ، خال معن بن زائدة ، زنديق مغترّ ، كان تلميذاً للحسن البصريّ فانحرف عن التوحيد . وكان يقول : إنّ صاحبي كان مخلّطاً يقول طوراً بالجبر وطوراً بالقدر ! فما أعتقد له مذهباً ! وقد جرى بينه وبين الإمام  الصادق ( عليه السلام ) احتجاجات ، ولمّا أُخذ ليُضرب عنقه ، قال : لقد وضعت أربعة آلاف حديث اُحرّم واُحلّل .

كان عبد الكريم يُفسد الأحداث ، فتهدّده عمرو بن عبيد ، فلحق بالكوفة ، فدلّ عليه محمّد بن سليمان ـ أمير البصرة ـ فقتله وصلبه ، وكان ذلك في خلافة المهدي بعد الستّين والمائة (33) .

له مع الإمام الصادق ( عليه السلام ) مناظرات كثيرة في مختلف شؤون الدين ، ولا سيّما فيما زعمه من مناقضات في القرآن الكريم (34) ، أمّا قصّة معارضته للقرآن فقد مرّت في قصّة ابن المقفّع .

8 ـ ابن الراوندي :

أبو الحسين أحمد بن يحيى الراوندي البغدادي ، ( المتوفّى سنة 245 هـ ) ، نسبته إلى راوند من قُرى كاشان ، كان من العلماء الأفذاذ ، ومن النقّاد من أهل الكلام ، له مجالس ومنظرات مع أرباب الأُصول من أصحاب المذاهب ولا سيّما أهل الاعتزال ، فإنّ له نقداً حرّاً على أُصول مذهبهم في المعتقدات ؛ ومِن ثَمّ رمي بالزندقة والإلحاد .

يقال : إنّه وضع كتابه ( الفرند ) طعناً في الدين ذَكر فيه : أنّ المسلمين احتجّوا لنبوة نبيّهم بالقرآن الذي تحدّى به النبيّ فلم تقدر العرب على المعارضة ، فيقال لهم : أَخبرونا لو ادّعى مدّع لمَن تقدّم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن ، فقال : الدليل على صدقً بطلميوس أو اقليدس أنّ اقليدس ادّعى أنّ الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه ، أكانت نبوّته تثبت ؟ (35) .

لكن يظهر من مناظراته مع أرباب الجدل أنّ كلماته مثل هذه إنّما قالها جدلاً وإفحاماً لدليل الخصم ، لا لعقيدة الخلاف واقعاً . انظر إلى ما نقله صاحب كتاب ( معاهد التخصيص ) عن مناظرة وقعت بينه وبين أبي علي الجبّائي رئيس المعتزلة في وقته . قال له ابن الراوندي : أَلا تسمع شيئاً من معارضتي للقرآن ؟ قال الجبّائي : أنا أعلم بمخازي علومك ، ولكن أُحاكمك إلى نفسك ، فهل تجد في معارضتك له عذوبةً وهشاشةً وتشاكلاً وتلاؤماً ونظماً كنظمه وحلاوةً كحلاوته ؟ قال : لا والله ، قال : قد كفيتني ، فانصرف حيث شئت .

قال الرافعي : أمّا ما قيل من معارضته للقرآن فلم يُعلم منها شيء سوى هذه المناظرة  .

قلت : على فرض صحّتها فهي صريحة في عقيدته بكبرياء القرآن وعظمته الخارقة ، ومِن ثَمّ فهي على العكس أدلّ ، وأنّه إنّما جارى الخصوم في أنّه هل يمكن المعارضة أم لا ؟

هذا وقد رُمي إلى الرفض والتشيّع ، رفضاً لعقائد أهل السنّة القائلين بالجبر والقدر ، ولعلّه شايعَ مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) في مسائل العقيدة الإسلامية الأُولى .

وكيف كان ، فلم يثبت أنّه عارض القرآن أو حاول معارضته ، مع أنّه الرجل العالم العارف بمواقع الكلام .

قال الشريف المرتضى في كتاب ( الشافي ) : إنّ ابن الراوندي إنّما عمل الكتب تشنيعاً على مغالطات المعتزلة ؛ ليُبيّن لهم عن استقصاء نقصانها ، وكان يتبرّأ منها تبرّؤاً ظاهراً ، وينتحي من علمها وتصنيفها إلى غيره ، وله كتب سداد مثل كتاب الإمامة والعروس ... وعن صاحب الرياض : يبدو من كتب السيّد أنّه كان يحسن الظنّ به مستقيماً في عقيدته ... .

ذلك يُذهب برونق الكلام وربّما يطيح به إلى حضيض الابتذال ، كما حصل بالفعل لهذا المعارض السفيه ، وليس ما لفّقه تقليديّاً ممّا يفي بما وفّاه سورة الحمد من جليل المعنى وقوّة التعبير (36) .

وهكذا زعم الكاتب أنّه عارض سورة الكوثر ، بكلمات لفّقها من غير ما نظم ولا أُسلوب ولا محتوىً معقول ، وزاد شناعةً أنّه لعق إنّاءً قد لعقها كذّاب يمامة من قبل ، جاء في تلفيقه : إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربّك وجاهر ، ولا تعتمد قول ساحر .

وما ذاك إلاّ تقليد مفضوح عن قولة مُسيلمة : إنّا أعطيناك الجماهر ، فصلّ لربّك وهاجر ، وإنّ مبغضك رجل كافر .

قال سيّدنا الأُستاذ دام ظلّه : لم يلتفت هذا المعتوه أنّ إعطاء الجواهر لا يستدعي إقامة الصلاة والجهر بها ؛ لأنّ نعمة الثروة أخسّ نعم الله على الإنسان الذي شرّفه بجلائل النعم العظام ، كالحياة والعقل والإيمان ، ثمّ ما وجه تعريف الجواهر ، أَهي لام العهد أم لام الجنس للاستغراق أم لغيره ؟ وأخيراً ما وجه المناسبة بينه وبين قوله : ( لا تعتمد قول ساحر ) أيّ ساحر ؟ مُعيّن أم غير معيّن ؟

ولعلّ قولة مسيلمة كانت أقرب إلى نظم السورة ، بعد أن كان الأصل أيضاً تقليداً وسرقةً محضة ، الأمر الذي ليس من المعارضة في شيء (37) .
____________________________
(2) الصفاق : الجلد الأسفل دون الجلد الأعلى الذي يُسلخ .

(3) سيرة ابن هشام : ج4 ، ص223 .

(3) سيرة ابن هشام : ج4 ص247 .

 (4) تاريخ الطبري ـ حوادث سنة 11 ـ : ج2 ص504 ـ 508 .

(5) عن أبي هريرة قال : جلست مع النبي ( صلّى الله عليه وآله ) في رهط معنا الرجّال بن عنفوة ، فقال :   إنّ فيكم رجلاً ضرسه في النار أعظم من أُحد ، فهلك القوم وبقيت أنا والرجّال ، فكنت متخوّفاً لها حتّى خرج الرجّال مع مسيلمة فشهد له بالنبوّة ، وقُتل في حرب خالد بن الوليد لمسيلمة وأهل اليمامة ، والرجّال في الرواية المشهورة بالجيم ، وفي بعضها بالحاء المهملة .

(6) إعجاز القرآن : ص175 .

(7) النبأ العظيم : ص74 .ـ

(9) إستهد : استضعف ، والجلائب : جمع الجليبة وهي المجلوبة . والسريّ : الشريف .

(10) أرسى : أثبت ، العميرة : خلايا النحل مجموعة ، وتُطلق على الحيّ العظيم المنفرد .

(11) رزى فلاناً : قبل برّه . والزبال : ما تَحمله النملة بفمها .

(12) حشده : جمعه ، والثبين : طرف الرداء إذا تثبنه أي تثنيه .

(13) الأمواه : المياه جمع ماء .

(14) حنفَ : مالَ ، السهف : حرشف السمك أُطلق على الخيل الصغار .

(15) طفلت : أي صارت ناعمة كالطفلة ، والثبور : الويل والهلاك .

(16) القُعس ـ بضم القاف ـ نتوء في الجسد ، كناية عن .. وفي الأغاني : ( فنولج فيهنّ الغراميل ... ) والغرمول : الضخم من ...

(17) راجع تفصيل القصّة في الطبري : ج2 ص496 ـ 499 .

(18) الإصابة : ج4 ص340 .

(19) تاريخ الطبري : ج2 ص485 ـ 486 حوادث سنة 11 .

(20) الروض الأنف : ج4 ص226 ، وذكره ابن هشام في السيرة : ج4 ص246 .

(21) كثف : غلط كثر والتفّ .

(22) القنّة : كالقلّة لفظاً ومعنى ، وهو أعلى الشيء ورأسه .

(23) هي خرقة تمسكها المرأة عند النوح تشير بها .

(24) فيروز معرّب بيروز ، بمعنى المضفّر .

(25) تاريخ الطبري : ج2 ص463 ـ 473 .

(26) أسلم على يد عيسى بن علي عمّ المنصور ، ولعلّه لذلك ( لمنافسة كانت بينه وبين عمّه ) أمر عامله بالبصرة سفيان بن معاوية بشنق ابن المقفّع نكايةً به ، بحجّة زندقته في ظاهر الأمر ، كان ذلك عام 143 .

(27) تأتي ترجمتهما في صفحة 154 .

(28) لم نعثر على ترجمته .

(29) كان من أعاظم صحابة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مشهوراً بالكلام وحسن المناظرة ، كان كوفيّاً ونشأ بواسط واتّجر ببغداد ، توفّي سنة 199 هـ .

 (30) الاحتجاج للطبرسي : ج2 ص142 ـ 143 ، وأورد مختصره في بحار الأنوار : ج89 ص 16 نقلاً عن مختصر الخرائج : ص242 .

(31) كتاب التوحيد : باب القدرة ح4 ص126 .

(32) راجع بحار الأنوار : ج4 ص140 ، وسفينة البحار : ج1 ص475 ، وتجه في الملل والنحل للشهرستاني : ج2 ص55 .

(33) راجع الكُنى والألقاب : ج1 ص201 ، ولسان الميزان : ج4 ص51 ـ 52 .

(34) راجع توحيد الصدوق : ص253 .

(35) تاريخ أبي الفداء ( المختصر في أخبار البشر) : ج2 ص61 .

(36) و (37) راجع البيان : ص112 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .



قسم الشؤون الفكرية يصدر العدد الثامن والثلاثين من مجلة دراسات استشراقية
مجمع أبي الفضل العباس (عليه السلام) يستقبل الطلبة المشاركين في حفل التخرج المركزي
جامعة الكفيل تحيي ذكرى هدم مراقد أئمة البقيع (عليهم السلام)
الانتهاء من خياطة الأوشحة والأعلام الخاصة بالحفل المركزي لتخرج طلبة الجامعات